الفصل الثالث
المكان المقدس والزرادشتية
من الحقائق التي لم يتطرق اليها أحد ممن بحث في قضايا الأيزيدية ، قدسية المكان لدى الأيزيدية ، وللمكان أهمية قصوى في الديانة الأيزيدية ، ويمكن أن تشكل الرمزية في المكان علاقة ثابتة مع العقيدة الأيزيدية التي تعتقد أن هذا المكان مقدس لعلاقته بالطوفان كما أن الأرواح تبقى متجمعة فوق سماء هذا الوادي إضافة الى ورود أسمه في مدونا تهم المقدسة وكتبهم الدينية ، وفوق هذا كله كونه يضم أهم رموزهم وشيوخهم من أتباع هذه الديانة .
يقع المعبد الديني الرئيسي والوحيد للأيزيدية في وادي لالش القريب من منطقة عين سفني أو الشيــخان والذي يعني وادي الصمت ، ويقع الوادي بين ثلاثة جبال كثيرة الشجر تتخللها عيون من الماء وقناطر يعبرها الأيزيدي حافياً أجلالا للمكان المقدس ولقبر الشيخ عدي بن مسافر وبقية الأولياء المدفونين في هذا الوادي تحت القباب المخروطية البيضاء ، ومدخل الضريح عند باب منحوتة في الصخر منقوش على يمينها صورة مجسمة لثعبان ، وعلى جدران حائط المدخل كتابات بلغة الأيزيدية بدات تفـقد وضوحها بالنظر للتآكل والفعل الطبيعي للطقس مع عدم أدامتها ، ويقع القـــبر على اليسار ثم تقع بعده ( العين البيضاء ) المقدسة التي تنبع منذ الأزل من داخل المعبد .
( فلالش ) مقدسة أكثر من ضريح الشيخ عدي وهي التي زادت من قدسـية وأهمية المرقد وليس العكس ، لأن وادي لالش مقدس قبل حلول الشيخ الجليل ودفنه فيه ، بدليل أن الشيخ عدي أستقر في هذا الوادي لقدسيته وقيمته عند الأيزيدية ، والمتتبع لمقاطع الكلمات الواردة في مصحف رش والجلوة يمكن أن يستدل منها ما يشير الى قدسية هذا المكان لدى الأيزيدية ،( نور المـلك جبرائيل ظهر في لالش ، ونور دردائيل ظهر مدة قصيرة في لالش ) ولذا صار المكان محجاً سنويا لعامة الأيزيدية إضافة الى المهابة والقدسية التي تطغي على كل ترابه ، وفي هذا الوادي تتجمع أرواح الموتى لتعيد ترتيب أرواحها ثانية وفق ما قدمت من أعمال خلال حياتها المنصرمة وتأخذ جزائها الدنيوي في أعادة تقمص الروح وتناسخها وحلولها في روح أخرى وكل هذه الأمور تجري ضمن مساحة الوادي المقدس ، وفي وادي لالش أكثر من مكان مقـدس ورمزي لدى الأيزيدية إضافة الى عين الماء المقدسة ( كاني سـبي ) والتربة المخصصة لعمل كرات الطين ( البراة ) ، وإضافة لهذا فلا يوجد مكان مقدس لدى الأيزيدية سوى لالش مما يزيد من أهميته وقدسيته لدى عموم الأيزيدية .
ويكتسب المكان قدسيته من وجود رمز ديني معين كوجود الكعبة المشرفة في مكة المكرمة وقبة الصخرة في مدينة القدس بفلسطين لدى المسلمين ، ومن المعروف أن الشيعة في العراق يقومون بدفن موتاهم في مدينة النجف الأشرف ليس دون سبــب بل لأن الأمام علي بن أبي طالب ( ع ) مدفون فيها إضافة الى كونها كانت مركز المرجعية الدينية للمذهب الجعفري الأثنا عشري في العالم ويقصدها الطلاب من كل العالم لدراســة الفقه والشريعة والعلوم ، وأن المدينة مقدسة لهذا السبب رغم أن مدينة الكوفة كانت هي مقر الخلافة إضافة الى كونها تضم قـبر مسلم بن عقيل الذي قتل على يد ( عبيد الله بن زياد ) قبيل معركة كر بلاء التي قتل فيها الأمام الحسين بن علي ( ع ) ، و كما تضم أيضاً قبور بعض صحب الأمام علي والأولياء من المسلمين وبها أقام ( الأمام علي (ع) ) ، ألا أن قيمتها التاريخية تضائلت أمام قدسية مكان ضريح الأمام علي (ع ) ، وكذلك فأن تربة مدينة كر بلاء مقدسـة أيضا لأنها تضم ضريح الأمام الحسين بن علي ( ع ) وقبور أهله و أصحابه ، كذلك فأن مكان ولادة السيد المسيح ( ع ) في بيت لحم بفلسطين مقدس أيضا مما يعني أن قدسية المكان رمز له علاقة بأسس الدين الرمزية و فلسفته و تدخل في جانب الموروث الديني والرمز الروحي والطقوس الشعبية العامة المتمثلة بمشاعر الحـب والتبجيل والتكريم للرمز المقدس ، ومما يعنيه أيضا أن في هذا الوادي تبقى روح كل أيزيدي في كل أنحاء المعمورة ومهما كان قريبا أو بعيدا متحددة في المنطقة حتى يتم الحلول والتناسخ ولاتخرج عن دائرة الوادي الا بخروجها من الدين أو مروقها وخروجها على الله ومن هنا تتجسد قدسية المكان دينيا بالإضافة الى الموروث الديني الشعبي فيزداد المكان تقديسا واحتراما ، وليس اعتباطا أن يقوم الأيزيدي بخلع نعليه قبل الدخول الى الوادي المقدس والمسير إليه بعد الاغتسال في الماء الجاري من أحد العيون عند ( بر صراط ) مشيا على الأقدام زيادة في التبرك و التقديس وهذا الطقس مشابه لدى الكثير من الأديان والمذاهب والملل عند زيارة الأماكن المقدسة والأضرحة .
قيلت روايات عديدة في أصل المكان أكثرها كان بقصد إلغاء صفة القداسة الأيزيدية عنه ، فقيل أنه كان معبداً مثرائيا أو ديراً للنصارى وأغتصبه الشيخ عدي منهم ، مثلما ذكر السيد قسطنطين زريق في مقدمة كتاب إسماعيل بك جول والسيد الحسني ، أو بناء من العصر الأتابكي مثلما يذكر الدكتور سامي سعيد الأحمد أو صومعة لتعبد المتصوفين والزهاد من المسلمين ، إضافة الى إلحاق كتابات فوق باب مدخل المعبد تشير الى كتابات إسلامية حديثة ( أيا شمس علي بك ويا فارس كونا نصيبي الحسن وحظ الحسين في هذه الدنيا والآخرة ) بينما بدأت كتابات أيزيدية قديمة منقوشة فوق جدار مدخل المعبد من الجهة اليمنى تتآكل وتنمحي بفعل التأثيرات الجوية وتعرضها للمطر والهواء والشمس والرطوبة دون صيانة ويصعب قراءتها لأنها مكتوبة بالكتابة الأيزيدية القديمة ، وكنت قد شاهدتها شخصياً مع كريفي الأستاذ عمر خـضر حمكو عند زيارتنا للمعبد سوية ولم يكن معي آلة تصوير لتصويرها بالنظر لأهميتها التاريخية والدينية ، كما أتلفت صخور كانت تحتوي على كتابات أيزيدية خشية من تدخل دوائر الأثار في خصوصيات المعبد .
وعلى الكتابات الحديثة والكتابات غير المقروءة وكتابات أخرى إسلامية كتبت في أزمنة حديثة أسس الأثاري الإنكليزي أوستن هنري لايارد ( 1817 – 1894 م ) الذي كان قد زار المرقد في العام 1839 م رأيه الذي يقول أن البناء من الطراز الإسلامي مستدلاً بالقباب المخروطية القائمة فوق الأضرحة متناسياً أن هذه القباب شيدت حديثاً بعد وفاة الأولياء في حين أن المكان يعج بالشواهد التي تدلل على عمق قدمه قبل وجود الأضرحة .
أما الأثاري طـــه باقر والأثاري فؤاد ســـفر فقد ذكرا في الصفحة ( 41 ) من كتابهـما ( المرشد الى موطن الآثار والحضارة ) الصادر في بغداد عام 1966 بناء القـبة متأخر ولعل رسم الثعبانين منقولان من بناء أقدم ، ومع أننا نؤيد الرأي القائل كون القباب المخروطية البيضاء لم تكن مشيدة الا بعد وفاة الشيخ عدي وأصحابه ، الا أن صورة الثعابين في مدخل المكان لاتدل على أنها منقولة من بناء أقدم ويستطيع أي أنسان يصل المكان مشاهدة ذلك ، إضافة الى كل هذا خلو المكان من الريازة والنقوش العربية الإسلامية التي كانت منتشرة في العراق وتدل عليها المراقد والأضرحة والجوامع التي كانت مشيدة والتي يختلف بنائها وعمرانها عن شكل وبناء مرقد الشيخ عدي بن مسافر في لالش وما يحتويه المكان المقدس من مغارات وامكنة سرية وكهوف في الداخل ، وأن هناك أبنية وكتابات نقشت في أزمنة حديثة لأعطاء المكان غير حقيقته التاريخية .
الا أن الثابت هو وجود المكان قبل مجيء الشيخ عدي الى المنطقة وكون هذا المكان قديماً قبل قيام الأضرحة والقباب المخروطية وقديم قدم الديانة الأيزيدية ، و ما القصص التي تقول أنه من أماكن العبادة القديمة أو المعابد المثرائية أو الأديرة القديمة ألا دليل على قدمه .
ويذكر المرحوم صديق الدملوجي في كتابه الصفحة (206) نقلاًَ عن نوري باشا والي الموصل أنه كان توجد صخرة فيها كتابات آشورية وقد محاها الأيزيدية عمداً لئلا تجلب أنظار السواح الأجانب ويكثرون التردد إليهم .
وتتطابق الديانة الأيزيدية مع الديانة الإسلامية في كون الله موجود وليس له حدود وهو كل شيء متفرد بقدرته لاتحتوية جهة من الجهات ولا تدركه الأبصار ولا تبلغه الظنون مالك الملك بيده ملكوت الكون والحياة وليس له ولد ولاوالد ولا أم ، بيده الرزق ومشيئته فوق كل شيء ، وأن الإنسان حينما يموت وتقبض روحه يبقى بانتظار يوم الحساب ( القيامة ) .
في حين تختلف الأيزيدية عن الإسلام كون الأيزيدية تؤمن بأن الروح مقدسة لأنها جزء من الله ولذا فهي باقية تتكرر وفق أفعالها لذا فأنها تعتقد بتناسخ الأرواح وعودة الروح للحلول في جسد آخر يتكرر مرات ومرات حتى تقوم الساعة وتعلن ساعة الحساب أمام الله عز وجل بينما ينكر الإسلام مسألة الحلول وأن الروح تنفصل عن الجسد في لحظة الوفاة حيث ترجع الى ملكوت الله بانتظار يوم الحشر حيث تحاسب الأرواح على ما فعلته بدنياها بعد أن تعاد الأجساد البالية الى الأرواح ليعاد تشكيل الأجساد البالية إلى الروح لغرض الحساب على الأعمال يوم المعاد .
وتتطابق الأيزيدية مع الإسلام في مسألة الخروج على الدين ، فمن خرج من الدين يعتبر مارق ولارجعة له ، الا أن الأيزيدية تختلف عن الإسـلام كون الدين الإسلامي يقبل انضواء البشر من الأديان الأخرى لدينه ، بينما ترفض الأيزيدية أن يأتيها الإنسان من خارج مجتمعها الديني أي يجب أن يكون الأيزيـدي مولود من أبوين أيزيديين ، لذا فهي من الديانات المغلقة القائمة على نسب الدم ، وتختلف الأيزيدية عن الإسلام في جواز زواج المسلم من كتابية مع بقائها على دينها ، بينما لا يجوز الزواج في الديانة الأيزيدية الا من أيزيدية أو أيزيدي مهما كانت الظروف والأسباب .
وفكرة التناسخ التي يعتقد بها الأيزيدية أساسها أن الأنسان يتكون من جسد وروح ، والجسد يبلى ويفنى في حين تبقى الروح قائمة وخالدة ولذا فهي تنتقل من جسد حي الى آخر لا يشترط أن يكون أنسانا ، بل يتم الحلول وفقاً لعمل الأنسان في الحياة الأولى ووفق تصرفاته ، كما أن هناك انتقالات متعددة للأنسان فقد ينتقل من حياة الى حياة ومن حالة إلى حالة بأمر الله .
يقول السيد ممو عثمان في مقالة منشورة بمجلة روز العدد( 9 ) في مقالـة بعنوان ( الديانة الأيزيدية من تقديس عناصر الطبيعة الى الوحدانية ) : - (( عندما يموت الإنسان تترك الروح جسدها الدنيوي ، وبعد انقضاء فترة الحزن من قبل أهل وأقارب الشخص الميت ، أعتقد الأكراد قديماً بأن الروح تذهب الى عالم الأموات وبأن النجوم البعيدة هي مواطن الأرواح ، فالقمر والنجوم الأخرى ماعدا الشمس كانت تعتبر موطنا للأرواح ، لكن بعد فترة من الزمن تعود الروح ثانية الى جسد آخر عن طريق التقمص ( تناسخ الأرواح ) ، وقديما عندما كانت الطوطمية تلعب الدور الرئيسي في الديانة الأيزيدية فأن الروح لم تكن سوى المبدأ الطوطمي الذي يتناسخ في الجسد ثانية وثالثة حتى نقائها .
ولكن ماهي العلاقة التي تحدث عندما تدخل روح لها خبرتها في الحياة ولها خطاياها وحسناتها الى هذا الجسد الجديد ؟ لابد أن تحصل بينهما علاقة متلاصقة وحميمة ، فالعلاقة بين الروح والجسد هنا تخضع لقانون الفعل ورد الفعل ، الثواب والعقاب ، ونتيجة لهذه العلاقة والتعايش المشترك يكون لهذه الروح ذات التجارب القديمة تأثيراً ثنائيا متعارضا مع رغبات الجسد الجديد ، فالروح كانت ولاتزال أرقى وأقدس شيء في الجسد ، وهي المدبرة والمخططة لكافة الأعمال التي يقوم بها الجسد ، لكن الروح ضيف مؤقت على وجه الأرض ، ضيف أتى من عالم آخر تميز نفسها عن هذا الجسد الأرضي وتدرك بأنها ستعود ثانية الى موطنها الأصلي الذي يفصلها عن هذا العالم الجسدي وأنها في يوم ما ستـعود الى الكل عاجلا أم آجلا ، ولكن بعد أن تنتقي ، وهنا يحدث التعارض فللجسد مطامح أخرى على وجه الأرض منها التمتع والسيطرة وإشباع كافة الغرائز التي تتعارض مع خاصية ونية الروح الأزلية أي الاستقلال عند التحام الجزء بالكل . )) .
ومثلما يعتقد الأيزيدية بالتناسخ والحلول فأن أديانا ومذاهب أخرى تعتقد مثلهم أيضاً ، فالديانة البوذية تعتقد بذلك وكذلك الزرادشتية وتعتقد جميع الديانات القديمة قبل الميلاد من اليونانية والسومرية والبابلية والآشورية والأكدية ببقاء الأرواح هائمـة وموجودة ومن الممكن حلولها في أجساد أخرى ، وقد ظهرت فرق وشخصيات إسلامية تؤمن بالتناسخ منهم على سبيل المثال لا الحصر الحسين بن منصــور الحلاج ( 828-922 م ) وشــهاب الدين السهر وردي ( 1154-1191 م ) وفريـد الدين العطار ( 1145-1221م ) وجلال الدين الرومي ( 1207 – 1237 م ) وعمر بن علي أبن الفارض ( 1181 – 1235 م ) وغيرهم .
وفكرة عودة الروح ترتبط أصلاً بقدرة الله على أعادتها وهي فكرة متفق عليها بلا خلاف ، وتشكل هذه النقطة أي مسألة الأيمان بالتناسخ والحلول في الديانة الأيزيدية تطابقاً مع الأديان القديمة مما يمكن أن يدلل على قدم هذه الديانة .
ما يقصده الأيزيدية بعبارة دين طاووس ملك ودين الملائكة هودينهم ويشيرون به الى الله خالق كل الأشياء وبيده الموت والحياة و يؤكدون على وحدانيته ويذكرون ذلك كثيرا في تراتيلهم وأناشيدهم الدينية ولايمكن الاعتماد على القصص الشعـبية والخرافات والأساطير التي تم تعميمها ونشرها بقصد الإساءة الى الديانة الأيزيدية بزعم عبادتهم غير الله أو أشراكهم بالله أو أعتقادهم الألوهية ببشر يتقمص شكله الأله .
المعروف أن أرباب الديانات من يؤمن بفلسفة ما وتستند هذه الفلسفة على أسس وتبقى الطائفة من الناس تتمسك بعقيدتها المستمدة منها وتضحي بحياتها في سبيلها لما لها من تأثير في نفوس المؤمنين بها ، وتبقى جذوتها مشتعلة تتجدد في ضمائر وقلوب معتنقيها ، بينما تذوي الطوائف التي تجد أن ليس لأديانها وفلسفتها أسس وليس لها ثبات في قلوب معتنقيها فيتم تحولهم الى ديانات أخرى أو انتفاء بقاء عبادتها مع الزمن فتصبح أطلالا تاريخـية وتذكرها المدونات التاريخية وكتب السير مرورا عابرا ، بينما تزداد ثباتا الديانة الأولى ومنها الأيزيديـة التي لم تخبو جذوتها رغم عاديات الزمن ، ولو كانت ديانة عابرة أو دون أساس لانقرضت ، وأن الأيزيدية تعتقد بأن الدين هو العلاقة الروحية بين الله والأنسان ولا يوجد تبشير أو كسب جديد لهذه الديانة فمن ولد أيزيديا يبقى أيزيديا مادام ملتزما بأسس ديانته ومن خرج منها أو أخرج فلارجعة له مطلقا ، ولذا ينبغي التمعن بروية والتدقيق والتمحيص في الأسس العقائدية التي تستنـد عليها الديانة الأيزيدية خالصة من الشوائب والأساطير والخرافات والموروث الشعبي والحكايات المتداولة بين البسطاء من الأيزيدية والمستندة على رد الفعل في حياتهم .
ومن الحقائق التي ينبغي ذكرها أن الديانة الأيزيدية لم تنكر وجود بقية الأديان وبهذا لم تسلك طريق بعض الأديان السرية والملل المنغلقة التي اعتبرت نفسها على الحق وبقية الأديان مجرد حركات إصلاحية ، بل دعت الأيزيدية الى احترام العقائد والاشتراك في تمجيد الله ، إضافة الى عدم إدعاء أحد فلاسفتهم وأوليائهم ورجال دينهم النبوة التي يرجعونها الى النبي إبراهيم الخليل ( ع ) وهذه النقطة جديرة بالاهتمام والدراسة ، إضافة الى عدم وجود التبشير وكسب المؤمنين بالعقيدة الأيزيدية في أسس الديانة الأيزيدية ، وتقر الأيزيدية بالوعد والوعيد ويوم الحساب ويدعون الى تطهير النفس والدعوة لعمل الخير والابتعاد عن أعمال الشر ، ولا توجد في تعاليمهم الدينية شائبة يخالفون بها ما أوردته الأديان بصيغتها العامة باستثناء فلسفة طاووس ملك الذي أختاره الإله ليحكم ويتسلط ويفعل ما يشاء مستمدا قوته من الله سبحانه وتعالى وبالتالي تحريم اللعن والسـب ليس فقط لطاووس ملك بل لكل الأنبياء والأديان والمقدسات الأخرى .
إضافة الى دعوة الديانة الأيزيدية الى التمسك بالصلاة والالتزام بالصوم والدعوة الى الخير وأداء الصدقات وحث الناس على الصدق وتقديس الحقيقة ونكران الذات و مساعدة المساكين والفقراء وإيفاء النذور والدعوة الى التمسك بطرق الحلال ونبذ المحرمات في السلوك اليومي للفرد الأيزيدي والدعوة للتضحية والتذكير بالموت وقدرة الله على الغفران وقبول التوبة .
وبهذه الأسس يمكن أن نقول بأن الديانة الأيزيدية ليست حديثة ولم يقم لا الشيخ عدي بن مسافر ولا الشيخ حسن بوضع أسسها أو اكتشافها أو ابتداعها ، فهي دين قديم موغل بالقدم وأن قدمها يتجسد في أتخاذ الرموز والطواطم والأيمان بالظواهر الفلكية وتقديـس النار والشمس وتناسخ الأرواح التي كانت تؤمن بها كل الشعوب القديمة، وحالها حال الكثير من الديانات القديمة ، إضافة الى السر الكامن في قدرة هذا الدين على الصمود و الثبات في قلوب معتنقيه رغم كل ماجرى لهم وما صار عليهم من مآسي ونكبات ومصائب ، ورغم خلط أوراقهم ومحاولة التشكيك في عقيدتهم وأسس ديانتهم ليس من قبل أطراف دينية أو اجتماعية أو ذاتية وأنما من قبل سلطات قوية سلطت جيوشها وأعلامها وقدرتها المالية من أجل تشويه حقيقتهم وتشتيت شملهم كما هم الآن وأتباع أساليب جديدة تتصاعد مع التطور التقني والتقدم الزمني في أيجاد وسائل وطرق لمحاربتهم وأطلاق الصفات التي لاتمت لحقيقتهم بشيء بقصد تشويه صورة ديانتهم وأخلاقهم وقيمهم وأعرافهم لدى المواطن البعيد عن الحقيقـة أو ممن لم يتيسر له البحث والتقصي للوقوف على الجوانب الحقيقية في هذه الديانة وخلال هذا المجتمع .
أن الثابت تاريخـيا أن تسمية ( اليزيدية ) ألصـقت بهم منذ عام ( 652 – 657 هـ ) حين حكم الموصل ( بدر الدين لؤلؤ ) وأشاع عنهم كراهيتهم للمسلمين ولآل البيت وموالاتهم ليزيد بن معاوية وتأليب الناس ضدهم وقتل شيوخهم وإجبارهم على تغيير ديانتهم لأغراض سياسية لا تفوت أسبابها على المطالع الذكي ، حيث يذكر بعض المؤرخين وجود تعاون بين يزيد بن معاوية وبين الأيزيدية الذين قدموا المساعدة العسكرية لجيــشه عند قتال الحـسين بن علي ( ع ) وتحقق له الانتصار العسكري عليه ، وفي هذا القول ليس مجافاة الحقيقة بل وقائع لاسند لها في التاريخ ولاأساس لها من الصحة وواضح أفتعالها وهي ترمي الى قصد الإساءة الى الأيزيدية .
وليس بعيدا ما أشاعته السلطة العراقية الحالية وأجهزة مخابراتها وأستخباراتها العسكرية في مناطق الوسط والجنوب حينما قامت انتفاضة شعبان عام 1411هـ/ 1991 م من أن السلطة قامت بإرسال قوات من الأيزيدية لقتال الشيعة في العراق وقتل شبابهم واستباحة نسائهم وحلالهم و الحقيقة أن الأيزيدية من كل هذا براء فقد كانوا يساندون أخوتهم الأكراد في تثبيت ونجاح انتفاضتهم وطرد السلطة من مناطقهم في كردستان العراق ، ولو تتبعنا الحوادث التاريخية المسجلة لوجدنا أن الأمر قد تكرر كثيرا بقصد الإساءة الى هـذا الشعب بسبب عقيدته وأيمانه العميق بديانته .
وأختلف الكتاب والباحثون في أمر تسمية الأيزيدية على ضوء استنتاجهم للفترة التي ولدت فيها هذه الديانة وفق اجتهادهم فقد ذكر المؤرخ هنري لايارد بأن المؤرخ اليوناني ( توفانيس ) ذكر بأن الإمبراطور هرقليوس خيم بالقرب من مدينة ( يزدم ) وهي بالقرب من مدينة ( حدياب ) ويعتقد بأن ديانة القوم الذي يسكنونها كانت الأيزيدية ، بينما ينفرد المرحوم الشــــيخ علي الشرقي فيسميهم ( بالبايزيدية ) في مقال له نشر في مجلة العرفان ، وذكر السمعاني المتوفى عام ( 1166 م ) في كتابه الأنساب بانه لقي في حلوان ونواحيها جماعة من( اليزيدية ) وبالتأكيد أن هؤلاء أن وجدوا فهم يختلفون عن الأيزيدية المعروفين .
أما البر فسور أي في وجا كسون من جامعة كولومبيا المؤلف ا لشهير عن الأديان فيقول بأن الكثير من عبدة النار والزرادشتية ومعتنقي المعتقدات الخرافية المنتشرة في المنطقة قد دانوا بالديانة الأيزيدية ، ويضيف البر فسور ( أمبسن ) إلى نظرية البر فسور وجا كسن من كون الطرق الدينية للأيزيدية والمجوسية قديمة .
أما مؤلف كتاب ( طاؤوس ملك ) ( ر. هـ. وأمبسن ) فيذكر بأن بعض الكتاب أكدوا بأن الأيزيدية يعتقدون أنهم من أصل صابئي أو كلداني وأنهم من الجاهليين .والمطلع على الديانة الصابئية والكلدانية سيدرك مقدار البون الشاسع بين هذه الديانات وبين الأيزيدية .
والتفاتة صغيرة لوقائع التاريخ وتقليب صفحاته قد تستطيع أن تولد القناعة بأن الأيزيدية كانوا موجودين قــبل مجيء الشــيخ عدي بن مسـافر (1073-1162م ) ( 471-558 هـ) فقد أشتهر أبو عبد الله محمد بن العباس بن محمد اليزيدي (228-310هـ) بانتمائه الى البيت العباسي وكان يعمل مربياً لأولاد الخلــيفة المقتدر بالله العباسي ولـه عدة كتب منها ( أخبار اليزيديين ) و ( مناقب بني العباس ) وكذلك أبو إسحاق إبراهيم بن أبي محمد اليزيدي وله مؤلفات عديدة وكذلك أبو عبد الرحمن عبد الله العدوي بن محمد اليزيدي المشهور في النحو واللغة وهو عم الفضل بن محمد اليزيدي أحد مشاهير النحويين وكذلك أبو يحيى بن المبارك بن المغيرة اليزيدي المختص بتأديـب أولاد يزيد بن منصور الحميري خال المهدي العباسي .
فهل يعقل أن يكون من بين الأيزيدية من يخدم ويعمل ضمن البيت العباسي وفي مركز الخلافة المناوئة للأمويين مالم يكن وجود هؤلاء قبل وجود الأمويين ؟ هل يعقل الزعم بتقديس الخليفة الأموي يزيد بن معاوية واعتباره ألها مع وجود الحكام العباسيين الذين لاحقوا البيت الأموي حتى أخر نقطة من نقاط الحكم العباسي في أفريقيا ولم ينج منهم ألا بعبور البحر باتجاه بلاد الأندلس ؟ وقد علل القس سليمان الصائغ في كتابه ( تاريخ الموصل ) بأن تسميتهم تعود الى كونهم كانوا يعبدون ألـه أسمه ( يزد ) أو ( يزدان ) وكلمة يزدان تعني الإله بالفارسية . وتعني الكلمة عبدة الله ويسمي الأيزيدية أنفسهم بالداسانيين وهذه الكلمة مأخوذة من ( دئيف سنة ) أي عابد الإله .
ومن المؤرخين من ينسبهم الى مدينة تدعى ( أيزد ) في بلاد الفرس وهي كانت مركزاً للديانة الزرداشتية .
والزرادشتية ديانة كانت منتشرة في أيران وماحو لها وأعتنقها الملايين من البشر قبل مجيء المسيحية ومن بعدها الإسلام أذ يمتد تاريخ هذه الديانة من ( 520 قبل الميلاد – وحتى عام 644 بعد الميلاد ) وتتلخص هذه الديانة بأن العالم تحكمه قوتان الأولى قوة الخير والثانية قوة الشر تتمثل القوة الأولى بالآله ( آهور أمزدا ) ويعتبر مصدر الضياء والجمال والحب والرخاء والخصب ، بينما تتمثل القوة الثانية بالله ( اهرمن ) ويعتبر مصدر الظلام والشر والوباء والفقر والكذب والرذيلة ، وهاتان القوتان تتجاذبان الإنسان في حياته ، فأن أتبع أعمال القوة الأولى وعمل عملاً صالحاً وطهر بدنه فـقد أخزى آله الشر واستحق الأجر والثواب من الله أمزدا ، وبالعكس من هذا فقد يستحق سخط آمزدا .
وعلى ما يذكر في الكتب فان زرا دشت المولود عام 599 قبل الميلاد استطاع التأثير على هذه الديانـة ووســع من انتشــارها وهو الذي وضع كتابهم المقـدس المسمى ( الأفستا – الأبستاق ) وشرح هذا الكتاب المقدس المسمى ( زند آبستا ) والذي يحتوي على وعد ووعيد وأوامر ونواهي وعبادات .
وفي رواية للأخصائي الشهير في الأديان القديمة ( المستر جاكسن ) يقول فيها بأن زرا دشت ولد في النصف الثاني من القرن السابع قبل الميلاد وتوفي في النصف الأول من القرن السادس قبل الميلاد ، بينما تؤكد الروايات الزرادشــتية أنه ولد في القرن السابع ( ق . م ) وشرع في بث تعاليمه ونشر ديانته على شواطئ نهر آرمية حتى مات .
ولم تزل طائفة من طوائف الزرادشتية باقية في مديـنة بومباي بالهند ويسمونهم ( بالبارسي ) ، وأن زرا دشت دعى الى معرفة الله وعبادته ولقي معاندة ورفض لدعوته ، ثم هاجـر الى مدينة ( بلخ ) حيث استجاب له الكثير ، ويرى الكثير أن زرا دشت كان موحداً يؤمن بأن الله واحد .
ويذكر أبن مسعود في مروج الذهــب ما يدل على أن أسم زرا دشت كان معروفاً عند الإسلام وكان المجوس قد عملوا تفسيراً للأفـستا أسموه ( زنداً ) ثم عملوا تفسير للتفسير وسموه باز ندا ثم تفسير لهذا كله أسموه ( بارده ) وقد قام الدكتور داود الجلبي – الموصلي بترجمة لكتاب الأفستا – الونديداد الى اللغة العربية حيث أعارني أياه كريفي الأستاذ عمر خضر حمكو في الموصل .
وتعتقد الديانة الزرادشتية إضافة الى وجود القوتين التي تحكمان العالم فأنها تؤمن بعقيدة التناسخ وهو مبدأ انتقـال الروح وعدم توقف عملية الانتقال ، إضافة ألى اعتبارهم النار عنصراً مقدساً وتقديس الشمس والسجود لها عند بزوغها فجرا أو عند مغيبها .
وزرا دشــت واضع الكتاب المقدس المولود على شواطئ نهـر ( آرمية ) كان قد هاجر الى مدينة ( بلخ ) بعد أن أعتزل الناس وانزوى عنهم في محل مهجور في الثلاثين من عمره بعدها دعى الى معرفة الله فلم يستجب لدعوته الا القليل ، ثم نشر دعوته في بلاط الملك فاستجاب له أول الأمر أبناء الوزير ثم الملكة نفسها ، وقد لقي مقاومة شديدة من رجال البلاط وحاولوا الحد من نشاطه وتبشيره ودعوته وحاولوا حث الملك ( يشتاسب ) على قتله الا أن زرا دشت والملكة استطاعوا كسب الملك الى صفوفهم فأنتصر عليهم بدخول الملك نفسه في الديانة الزرادشتية مما فتح مجالاً للعامة للدخول في هذا الدين واعتـناق الكثير للديانة الزرادشتية .
أما الشهرستاني في كتابه الملل والنحل فيذكر أن أسمه زر دشت بن بورشب وظهر في زمان كشتاسب بن لهراست الملك وأبوه كان من أذربيجان وأمه من الري وأسمها دغدويه .
ومما يشار له كون زرا دشت الذي كان موحدا يرى بأن للعالم ألها واحد ولكنه يرى أيضا أن تحت هذه القوة توجد قوتان تتصارعان ، هما قوتي الخير والشر ، وقد استطاع أن ينشر هذه الديانة على طول البلاد وما حولها ولا يزال أثر هذه الديانة باقيا في المنطقة رغم انهيارها بظهور الإسلام .
وقوم ( الغبر ) لا يزالون يمارسون الزرادشتية في منطقة يزد بإيران وللزرادشتية تمثيل في البرلمان الإيراني مثلما للباراسيون في الهند .
وقد ورد في الموسوعة العربية الميسرة المطبوعة بالقاهرة عام 1959 من قبل دار الشعب ومؤسسة فرانكلين بالصفحة 921-922 من أن الغبر لا يزالون يمارسون الزرادشتية في يزد بأيران كما يمارسها البارسيون في الهند .
والكتاب المقدس للديانة الزرادشتية المسمى ( الآفستا ) مكتوب بلغة إيرانية قديمة ويحتوي على خمسة كتب هي :-
1- الياسنا : - وينصب على الشعائر الد ينيـة ومنه الغاثا وهو على الأرجح أقدم جزء من الآفستا .
2- الفسبريد :- وهو الكتاب المتــمم للياســنا.
3- الياشت : وهو مجموعة الأناشيد الخاصة بالمدائح .
-
مجموعة من النصوص القانونية التي تحكم كافة مناحي الحياة العامة .
-
الفانديداد :- وهو مجموعة التفصيلات التي تحكم الطهارة .
واللغة الإيرانية المكتوب بها الآفستا هي اللهجة الفهلوية التي يتحدث بها الكهنة في بلاد فارس ، ويمكن اعتبار الزرادشتية ضرب من ضروب الإصلاح الديني الطبيعي لدى بلاد فارس ، ولم تكن للزرادشتية معابد في البداية بل كانت لهم مجرد صومعات ومصليات منزوية ثم ظهرت بالتدريج بعض الطقوس ، وقد تمكن زرا دشت من دمج بعض الطقوس الفارسية القديمة مع طقوس ديانته بعد تهذيبها ، ومن ثم أصبحت الزرادشـتية الدين الرسمي للدولة أيام حكم الأخمينيين .
ويقدس أتباع الزرادشتية النار ويدخلونها في شعائرهم وطقوسهم وفروضهم الدينية مما ولد الاعتقاد الشائع بأنهم عبدة النار .
وزرا دشت مدينة تقع غرب أيران ويخترقها نهر الزاب الصغير عند الحدود مع العراق .
والمطلع على الكتب الدينية والتعاليم الدينية للديانة الزرادشتية سيلاحظ التوجه الذي يدعو الى تهذيب النفس البشرية وتقويمها وتحريم الموبقات والرذائل عن الإنسان وحماية الحيوانات وتقديس الطبيعة والظواهر الكونية في هذه الديانة و التي يستمد قوتها من تمسكها الإقرار بالتوحيد والدعوة للخير والمحبة وبناء المجتمع على أسس متينة خلال تلك الفترة .
ويظهر الكثير من التأثير المتبادل بين الزرادشتية والأيزيدية أذ تعتقد الزرادشتية والأيزيدية سوية بالتناسخ وهو المبدأ القائل بالحلول وخلود الروح كما يوقد الأيزيدية القناديل والسروج على قبور أئمتهم وأوليائهم ويشعلون النيران في ليلة عيد ( البيلنده ) في بيوتهم وساحاتهم ويتبركون بها ومثلهم يفعل الزرادشتية .
كما يشترك أهل الأيزيدية والزرادشتية في تقديم الخيرات والنذور للأحياء والأموات من الرجال الصالحين وتقديم النذور وتقديس الشمس وتمجيدها والسجود لها عند البزوغ وتقبيل الأرض كطقـس ديني وتعبير للخضوع لها .
وكذلك أقامة الشعائر الدينية للموتى إيناسـا لأرواحهم وتقديم النحائر والذبائح ، ومن مشاهداتي في أضرحة الأيزيدية المقدسة لاحظت وجود فتحات على شكل مثلث باتجاه شروق الشمس موجودة في الأسيجة الخارجية لهذه الأضرحة ، مما يؤكد مسألة التقديس الذي يكنه الأيزيديون للشمس كظاهرة تدلل على القوة الإلهية .
وهذه الاشتراكات تعد في حكم التأثير الذي أخذته الزرادشتية من الأيزيدية ، والأيزيدية من الزرادشتية بحكم التعايش المشترك في تلك الفترة ، وأذا انسجمنا مع المنطق المذكور فأننا نقطع بوجود الديانة الأيزيدية منذ وجود الديانة الزرادشتية أي منذ عام 520 قبل الميلاد أن لم تكن قبلها الا أن الأيزيدية تفرض الصيام على معتنقيها ويأخذ هذا الصوم أشكالا عدة منها الصوم عن الطعام أو الصوم عن الكلام أو الصوم عن أكل نبات معين أو الصوم عن التقرب للنساء ليلة الأربعاء أو الامتناع عن أكل لحم معين ، وطقوس الصوم الأيزيدي قديمة قدم دينهم ، بينما تحرم الزرادشتية الصوم عليهم ، كما يختلف الأيزيدية عن الزرادشتية باعتقادهم بطاووس ملك وهو رئيس الملائكة وفي الثنائية المتجسدة في وحدة الله الواحد الأحد إضافة الى وجود تمثال لهذا الطاووس يتبركون به ، مما نستطيع معه القول بأن تزامن وجود الديانتين يؤكد انفصالهما كل بدين مستقل مع عدم إنكار التأثير المتبادل بينهما ، علما أن الأيزيدية تعتقد أن مؤسـس دينهم هو النبي إبراهيم الخليل ( ع) أن لم تكن أقدم منه ، بينما يكون زرا دشت هو مؤسس الديانة الزرادشتية ونبيها .
وبهذا لايمكن الجزم كون الديانة الأيزيدية امتداد ديني وتأريخي للديانة الزرادشتية لأن الطقوس والاعتقادات الموجودة لدى الأيزيدية يخالف الزرادشتية ، وهذا الاختلاف يضع احتمال التأثر والتأثير في الكفة الراجحة على الامتداد أو التفرع الديني التي تضعف أمام ماذكر أعلاه ، إضافة الى أندراس الزرادشتية وضعفها في الوقت الذي تنامت فيه الأيزيدية وقويت رغم ظروفها العصيبة كما أن الأيزيدية لم تظهر مظاهر عبادة النار التي طغت على كل طقوس الزرادشتية وأنما جنحت الى تقد يس الشمس وبقية الظواهر الكونية باعتبارها من دلالات الوجــود الإلهي ، كما أن وجـود كلـــمة ( أيزيدي ) مكتوبة بالخط المسماري وفي العهد السومري قد تعطي فكرة الوجود في العراق القديم للديانة الأيزيدية من ضمن الديانات الشرقية القديمة وفي الكثير من المدونات البابلية والسومرية وردت كلمة ( أيزيدي ) مما يدلل على معنى الكلمة منذ العصور القديمة في بلاد مابين النهرين .
وبالرغم من الكثرة التي آمنت بالزرادشتية وأتساع مساحة البلدان التي آمنت بها وانتشرت فيها ، وسيطرتها على ممالك ودول وحجم كثافة الناس الذين أتبعوها وأعتنقوها مقابل القلة التي أعتنقت الأيزيدية التي لم تتمكن في العصور الحديثة والمتأخرة من استلام سلطة أو التقارب مع سلطة من السلطات ، وأمام ما لاقاه الأيزيدية من حروب ومآسي لتغيير ديانتهم ، فأن ذلك لم يؤثر في نتيجة بقائهم وصمودهم على عقيدتهم ، مما يؤكد أن مسألة الأيمان والتمسك بالمذهب والدين يؤثر بشكل إيجابي على بقاء هذا المذهب والدين بغض النظر عن الكثرة أو القلة من الأتباع والمعتنقين .
أن كلمة ( يزدان ) تعني باللغة الكردية ( الإلـه ) و ( خدا هو الله ) ويسمي الأيزيدية أنفسهم عبدة الإله ويذكر الأستاذ توفيق وهبي بك بأن الأيزيدية ترجع الى عبادة الشمس التي كانت معبودة قبل 4000 سنة وان رائحة الديانة المانوية تشم منهم .
والمانوية أيضا من الأديان الفارسية القديمة وسميت بهذا الاسم نسبة الى ( ماني ) وهو بابلي الأصل ولد بالمدائن عام ( 240 م ) وذكر أبن النديم في كتابه الفهرست أن ماني هو أبن فتق بابك بن أبي برزام من الحسكانية وأسم أمه ( ميـس ) ويقال أوتاخيم ويقال مر مريم وكان ينزل المداين في الموضع الذي يسمى ( طيسفون ) وبها بيت للأصنام وهو المحل الذي فيه أيوان كسـرى ويذكر البيروني في كتابه ( الآثار الباقية ) أنه شب على المذهب الزرادشتي ، بينما يذكر الشهرستاني في ( الملل والنحل ) أن ماني بن فاتك الحكيم وظهر في زمان سابور بن أردشير وقتله بهرام أبن هرمز بن سابور .
ويذهب بعض الكتاب الى انسجام الديانة المانوية مع الأيزيدية في حياة الذل والمسكنة وتحريم الزينة والاتجاه نحو الزهد لكن الأمر يتناقض كون الأيزيدي لا يتجه فيها للزهد والمسكنة والتقشف بشكل عام أذ تكون هذه من اختصاص طبقة من الطبقات نذرت نفسها لله ، ولا تحرم الأيزيدية الزينة والطيبات بل تدعو وتحث على الفرح وشعائر الخير والكرم والتحريض على تقديم الخيرات والنذور والذبائح والتآخي ، ولم يظهر أي أثر للديانة المانوية على الأيزيدية وأن الزعم بشم الرائحة هو محض تخمين لاأثر له في التدقيق ومن أثار المانوية في التاريخ ( المزدكية ) التي أتبعها مزدك في مدينة نيسـابور حوالي ( سنة 487 م ) ويمكن تلمس النزعة الإصلاحية والاشتراكية في منهج المزدكية وتصطدم هذه الديانة مع الأيزيدية في الكثير من الأسس ومن أهمها إباحة النساء لدى الأولى وتوزيع الثروة والمساواة بين الرجال والنساء في الأموال .
وعلى هذا الأساس تكون الديانة الأيزيدية من الديانات القديمة التي تشترك مع بقية الأديان التي تلتها في الكثـير من الطقوس والتقاليد ، ولربما حدث تأثير منها على هذه الأديان ومن هذه الأديان عليها ، وهذه مسألة طبيعية بحكم التعايش والظروف .
يقول الدكتور ( كاظـم حبيب ) في دراسة قيمه له نشرت في مجلة روز العدد 7 و 8 :- ( أن الديانة الأيزيدية واحدة من أقدم الديانات في منطقة ميزوبوتاميا والشرق الأوسط ، أنها عريقة في القدم ولها أواصر صلة مع بعض الديانات التي برزت في فترات ما قبل الديانات التي نطلق عليها بالديانات السماوية ، ويمكن للدراسات الأثرية القادمة القائمة على أسس علمية في العراق الحديث ومناطق كردستان في كل من أيران وتركيا أن تتوصل الى البرهنة على هذه الحقيقة ) .
ولو دققنا في مسألة الأقوام الذين يعبدون الشمس ( مترا ) وهذه العبادة من العبادات القديمة في منطقة فارس ووادي الرافدين وأن الإله ( شمـش ) يعد أحد كبار ألهة بابل وكذلك عند الآشوريين في نينوى ورمز الإله شمش موجود في الكثير من المنحوتات والرسوم وهو يمثل أله النور والحقيقة .
ورد في المدونات القديمة أن الملك البابلي حمو رابي كان قد حارب الأيزيدية لإخضاعهم خلال الفترة ( 1785- 1755 ) قبل الميلاد ، مما يمكن أن يؤكد أن وجود الديانة الأيزيدية قبل وجود الدولة البابلية أن لم يكن معاصراً لها حيث كان الأيزيديون يعـتقدون بوجـود طاووس ملك ، بينما كان الملك البابلي يريدهم أن يؤمنوا بآلهة بابل وخضوعهم للسلطة البابلية ، وللعلم فأن كلمة ( تاووس ) هي من الكلمات اليونانية التي تعني الله ، وفلسفة علاقــة رئـيس الملائكة ( طاووس الملائكة ) معروفــة وقد تم بحثها بإسهاب وتفصيل من قــبل أغلب الكتاب وبضمنها كتابنا ( لمحات عن اليزيدية ) ضمن الفصل الثالث منه .
أن لجوء الأيزيدية الى اعتماد الطواطم يعود الى قدم عهدهم ، أذ كان الإنسان يلجأ إلى الطواطم في عباداته والكثير من الديانات من يتخذ من مجسم أو صورة أو ظاهرة أو شكل كرمز مقدس تدخل في تفاصيل حياتها وعبادتها ، والطواطم كانت تتخذ من قبل المجتمعات البدائية التي كان الرمز يشكل لديها أساس مهم للإشارة الى قوة دينية أو معنى مقدس ، هذا بالإضافة الى لجوء هذه المجتمعات الى القرابين والتضحية تقربا الى الألهة واعتبار بعض الأيام والشهور مقدسة ، في حين أن الأديان الحديثة لم يكن ضمن الميثولوجيا الدينية لديها وجود لطوطم أو تمثال مقدس ، مما يدلل مجدداً قدم الاعتقاد الراسخ في عقل الأيزيدي عن تمثال ( السنجق ) ، وليس أعتبارا تقديس شهر نيسان من أشهر السنة لدى الأيزيدية وتحريم الزواج فيه وكراهية تشييد الدور وعقد الاتفاقات والعقود ضمن فترة هذا الشهر، ويتم الاحتفال بعيد رأس السنة الأيزيدي في أول أربعاء من أول أسبوع من شهر نيسان ويسمى ( سر صالي ) أو عيد الجماعية ويرتبط هذا العيد بحلول فصل الربيع ويعتقد فيه الأيزيدية توافقه مع يوم نزول طاووس ملك الى الأرض ، والملاحظ أن الآشوريين كانوا يحتفلون أيضا بهذا العيد مما يمكن اعتباره امتدادا لهذا الاحتفال على امتداد التاريخ ومما يعزز وجهة النظر بقدم الديانة الأيزيدية و هذا العيد ينسجم أيضا مع احتفالات البابليين بعيد رأس السنة البابلية الذي يصادف في اليوم نفسه ولايمكن الركون الى الصدفة في التطابق الموجود في مواعيد الأعياد والمناسبات الدينية مما حفلت به الميثولوجياالأيزيدية .
كما ورد ذكر أبناء ( أيزيدا ) أيام حمورابي وأن مردوخ هو رب أيساكيلا وأيزيدا وأنه يسكن مدينة بور سيبا ، وبعد أن أخذ نابو مكانته بعد مردوخ أعيد الاعتبار للأماكن المقدسة في بور سيبا وتم الاحتفال بعيد رأس السنة البابلي في نيسان وقام نابو بمنح هيكل في أيسا كيلا في بابل أطلق عليه أسم أيزيد ، والمتتبع للقراءات التاريخية القديمة في العراق سيجد الكثير من الانسجام والتوافق بين طقوس وأعراف الأيزيدية وبين تلك الفترات .